إشراقة

 

ظاهرة التقصير في فرائض الله لأدنى سبب وبتأويل بارد

 

 

 

كثيرٌ من النّاس يتشاغلون بالأعمال الدينيّة والممارسات الخيريّة عن الفرائض حتى عن الصلاة والصيام، ويعتذرون بأنهم إنما غفلوا عنها لأنّهم بأعمال الدين قد اشتغلوا وعليها عكفوا؛ فإنما أهملوا في فرائض الدين؛ لأنهم قد شغلهم عنها أعمالٌ دينية أخرى مثلُها. مثلاً قد ينهمكون في اتخاذ ترتيبات لحفلة دينية، وينشئون لها منصة، وينصبون لها خيمة، ويُحَضِّرُون لها المكان الذي اختاروه، ويُزَيِّنُونه ويُوَفِّرون له كل حاجة يحتاج إليها الحضور؛ فلو قال لهم أحد: قد حان موعد الصلاة فهَيَّا بنا نُصَلِّ، لقالوا كلُّهم أو بعضهم: دَعْنا نُنْهِ العمل الذي نحن فيه، أليس ما نحن فيه عملاً دينيًّا يُرْضِي الله؟! فالصلاة تُؤَدَّىٰ لرضا الله، وهذا العمل كذلك في سبيل الله!.

     وكذلك كثيرٌ من الناس يشتغلون بجمع التبرعات في أيّام رمضان للمدارس والكتاتيب الدينية التي تسير بتبرعات الشعب المسلم وحدها أو بعمل من الأعمال الإسلاميّة التي يكون عمادها كليًّا على ما يُقَدِّمه المسلمون من المساعدات؛ فلا يصومون معتذرين بأنهم مسافرون جاؤوا من بعيد، ولو علم بأمرهم أحد واعترض عليهم في شأن ترك الصيام في مثل هذا الشهر الفضيل، قال بعضهم: إنهم في سبيل العمل الديني الخالص، وإنهم مسافرون شرعيًّا، والمسافر له رخصة في شأن الصيام إذا شاء صامه، وإذا شاء أجّله وصامه في أي فرصة لاحقة. وقد أُدْرِكَ بعضهم أنهم لم يصوموا لأمد طويل سنح لهم فيه أن يصوموا ما تركوه من الصيام أيام شهر رمضان التي أمضوها في جمع التبرعات، وعندما ذكّرهم أحد بذلك قالوا له: إن الصيام هو العمل الديني وجمع التبرعات لصالح الأعمال الدينية هو العمل الديني كذلك، وبما أن الجمع بينهما كان شاقًّا عليهم، فآثروا الثاني على الأوّل؛ لأنه كان ملحًّا جدًّا؛ لأنه كان لا يقبل التأجيل؛ لأن المسلمين عندنا تعوّدوا تقديم المساعدات في الأغلب في رمضان، أمّا قضاء صيام رمضان الذي تركوه في أيّام العمل، فلديهم فسحة في الحياة سينتهزونها ليقضوا ما فاتهم من الصيام.

     وفي هذا الصدد سمعنا أن بعض الناس يقومون بجمع التبرعات لصالح المؤسسات أو الأعمال الخيرية التي لها أشكال لا تُعَدّ و ينفقون منها ما يشاؤون على حاجاتهم الشخصية، ويقتطعون منها قدر ما تهواه أنفسهم لصالح أنفسهم، ويستندون في ذلك إلى احتيال عجيب، وهو أنهم هم الذين قاموا بجمعها بمساعي حثيثة ومجهودات مكثفة بذلوها في سبيل تهيئة الرأي وتحضير النفسيّة لدى فاعلي الخير وتوجيه أريحيتهم نحو الإنفاق في جهة الخير، والرواتبُ الشهرية التي خُصِّصَت لهم لا ترتقي بالتأكيد إلى مستوى إجهادهم لأنفسهم لهذا الخير الكبير المتمثل في جمع التبرعات؛ فحقّ لهم أن يأخذوا بدورهم منها ما يُغَطِّي حاجاتهم اللازمة التي لا معدى لهم عن تحقيقها لكي يعيشوا الحياة.

     واستنادًا إلى هذا التأويل الذي يُرْضِي أنفسَهم وقد لا يُرْضِي غيرهم يتصرفون في المساعدات التي يقومون بجمعها كيف ما يشاؤون؛ بل قد يجعلونها كلّها ملكاً لهم، ويقتنعون في أنفسهم بأنهم قد استَوْفَوْا من المساعدات أقلَّ من مستوى جهودهم المُضْنِية.

     ومن الواضح أن الشريعة الإسلاميّة لا تسمح بمثل هذا التصرف الأخرق في المال العامّ. كيف وإنها تُكَلِّف عُمَّالَها المُسْنَدَةَ إليهم جبايةُ الزكاة أو الجزية أن لا يقبلوا الهدية إذا قُدِّمَتْ إليهم خلال القيام بوظيفتهم، فإن قبلوها فعليهم أن يدفعوها إلى «بيت المال» لأنها قُدِّمَتْ إليهم بصفتهم «مُوَظَّفِين رسميين» ولو قعدوا في بيوتهم منقطعِن عن «المنصب الرسمي» هذا لما قُدِّمَتْ إليهم.

     إنّ الشريعة جَنَّبَتِ المسلمَ كُلَّ مَظَنَّة تهمة وكلَّ مَزْلَق إلى الوقوع في الحرام، وشدّدت عليه أن يتقي أكلَ الحرام، ويقتنع بالحلال وحده فيما يتعلق بلقمة العيش؛ لأن المكسب الحرام يبلغ من شناعته أنه يحول دون قبول الدعاء؛ مهما كان الداعي صالحاً تقيًّا في ظاهره بعباداته وأعماله، ومهما تضرع في دعائه وأناب إلى الله تعالى، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - إنّ الله تعالى طيب لا يقبل إلاّ طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال تعالى: يٰأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبٰتِ مَا رَزَقْنٰكُمْ». ثم ذكر الرجل يُطِيلُ السفر أشعَثَ أَغْبَرَ، يمدّ يديه إلى السماء يا ربّ يا ربّ، ومطعمُه حرام، ومشربُه حرام، وملبسُه حرام، وغُذِّيَ بالحرام، فأنَّىٰ يُسْتَجَابُ له» (رواه مسلم)

     أي كيف ومن أين يستجاب لمن كان يأكل حرامًا. ومن ذلك يُفْهَم بنحو واضح أن المكسب الحرام وتناوله وإنفاقه في حاجته عقابُه شديد عند الله عزّ وجلّ، كما يُؤَكِّد ذلك الحديث الشريف.

     على كلّ فإن التهاون في فرائض الله تعالى التي هي وحدها الكفيلة بالتقرب إليه تعالى والنجاة من مؤاخذته وعقابه والاستحقاق لرحمته المُدْخِلَة جَنَّتَه؛ فقد وَرَدَ في الحديث: «وما تَقَرَّبَ إليّ عبدي بشيء أحبَّ إليّ ممّا افترضتُه عليه» فيما رواه البخاري كثر في مجتمع المسلمين حتى فيما بين الذين يُتَوَقَّع منهم أن يكونوا على مستوى المسلم الصالح الملتزم بالدين وأحكامه، فما ظنُّك بغيرهم الذين يعيشون عِيْشةَ البهائم يركضون فقط لكسب الرزق ويكتفون بالأكل والبراز، ولا يهمّهم ما وراء ذلك، ولا يعرفون للحياة غاية ولا رسالة.

     والاهتمام بها وبغيرها من أحكام الدين، إنما يَتَأَتّى بغرس مخافة الله في القلوب، وتقواه في النفوس، واستحضار مؤاخذته ومعاقبته، وأنه لايخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأن المرأ سيُسْأَل عن كل شيء صنعه في حياته؛ فقد روى الترمذي عن أبي بَرْزَةَ نَضْلَةَ بن عُبَيْد الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : «لا تزول قدما عبد حتى يُسْأَل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه» (1924، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح): وأن الأرض ستشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها؛ فقد روى الترمذي أيضًا عنه رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا» ثم قال: «أتدرون ما أخبارها؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول: عملتَ كذا وكذا في يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها»(3350).

     إنّ مخافة الله واستحضار الموقف أمام المليك المقتدر هو السلاح الأمضى دون الوقوع في الموبقات بأنواعها، والحيلة الكبرى التي تنجي الإنسان من التورط في المهالك، فلابدّ من التسلح بهذا السلاح؛ لأنها هي التي تدفع رجلاً مثلاً يجد حزمة مئة ألف روبية في بيداء إلى البحث عن صاحبها ودفعها إليه بعد العثور عليه بعد مساعي حثيثه لا يتصور فوقها؛ وإنهاهي التي تجعل المرأ يمنع عن المرأة ذات المنصب والجمال وقد دعته بنفسها إليها فيكون ضمن السبعة السعداء الذين يُظِلُّهم الله في ظلّه يوم لا ظلَّ إلا ظلّه، كما رواه أبوهريرة رضي الله عنه وهو حديث متفق عليه؛ وإنها هي التي كانت قد منعت أحد الثلاثة الذين سدّت الصخرةُ عليهم الغارَ، فدعوا الله بصالح أعمالهم أن يزيل عنهم الصخرة.. منعته من أن يفضّ خاتم ابنة عمّه التي كانت أحب الناس إليه، وكان قد قعد فعلاً بين رجليها؛ ولكنه انصرف عنها مخافةَ الله عند ما قالت له: «اتَّقِ اللهَ ولا تفضّ الخَاتَمَ إلاّ بحقّه». كما رواه عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما حديث متفق عليه.

     إن مخافة الله ومراقبته في السرّ والعلن تُجَنِّب المسلمَ جميعَ الذنوب والآثام، وهي التي تكون الصخرةَ الصماءَ دون جميع الموبقات والملهكات، فلا بدّ من زرعها في القلوب، وتعهّدها بالسقي بماء الإخلاص وسماد التوكل على الله تعالى.

 

 

(تحريرًا في الساعة 9 من الليلة المتخللة بين الاثنين والثلاثاء: 5-6/صفر 1435هـ = 9-10/ديسمبر 2013م)

أبو أسامة نور

 nooralamamini@gmail.com 

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم  ديوبند ، ربيع الأول 1435 هـ = يناير 2013م ، العدد : 3 ، السنة : 38